حاتم الصكر وشعراء "المقاربة الإيكاروسية": القصيدة العراقية في عين نفسها

2024-05-01

علي صلاح بلداوي

في إطار تتبُّع مشوار "قصيدة النثر"، في العراق تحديدًا، نجد أنّ هذا الفن الشعري قد أخذ مكانته في وقت مُبكّر، منذ شيوعه في لبنان وبقية بلاد الشام وظهور نماذجه في مجلّة "شعر"، كون الكتابة الشعرية في العراق عرفت موجات عديدة من التحوّلات، ولم تكن قصيدة النثر لتُشكّل طارئًا على التاريخ الشعري، إنّما شكّلت تحديثًا متواصلًا للكتابة الشعرية.

ورغم المحاولات الكثيرة للإجهاز على قصيدة النثر من قبل التقليديّين، وحتى المجدّدين أمثال نازك الملائكة التي حاولت تفنيد شعرية النثر في كتابها "قضايا الشعر المُعاصر"، إلّا أنّ الأرضية الشعرية في العراق كانت خصبة، وتفاعلت مع التجديد بمثابرة، وتطوّرت من حيث الموضوعات والبناء والأسلوب عبر المراحل الزمنية المتعاقبة.

في كتابه "إيكاروس محدّقًا في شمس القصيدة: الميتا شعري في نماذج من قصيدة النثر العراقية"، الصادر حديثًا عن منشورات "الاتحاد العام للأدباء والكتّاب" في العراق، يتابع الناقد والأكاديمي والشاعر العراقي حاتم الصكر (1945)، حال الكتابة الشعرية وتفاعلها مع نفسها، حيث يقدّم، في سبعة فصول، دراسة عن "الميتا شعري" (القصيدة إذ تتناول الفن الشعري موضوعاً) وتجلّيه في قصائد الشعراء العراقيّين، مع استحضار قصائد لمجموعة مختلفة منهم.

يُشير مصطلح "الميتا شعري" إلى القصيدة المكتوبة عن القصيدة ووصف الشاعر لحال قصيدته من داخلها، حيث أنّ موضوعها هو الشعر، والشاعر هو من يتولّى مهمّة الكلام عنه وعن مفهومه وحالاته ومصادره وعلاقاته بما يحيط به.

يحمل مدخل الكتاب عنوان "العنونة الأسطورية والدلالة الرمزية"، وأراد من خلاله الصكر تبيان سبب اختياره عنوان كتابه، وعلاقته بالميتا شعري ونماذج القصائد الحاضرة. فـ إيكاروس، بحسب الأسطورة اليونانية، كان محتجَزًا في سجن مع والده ديدالوس الذي اهتدى بعبقريته إلى فكرة تخلّصهما ممّا هما فيه، حيث استخدم ريش الطيور المتساقط ليصنع منه أجنحة، ثمّ طارا إلى خارج السجن.

ولأنّ الريش أُلصق بواسطة الشمع، فقد حذّر ديدالوس ابنه من الاقتراب من الشمس، غير أنّ إيكاروس أغوته الشمس، فاقترب منها وحدّق فيها طويلًا، فاحترق الريش وذاب الشمع وسقط في البحر. يقول الصكر إنّ "إيكاروس هو تمثيل رمزي لعمل الشاعر في طور الحداثة الشعرية"؛ فالشاعر ما إن تهيّأت له الظروف حتى حلّق بعيدًا عن قيود التقليد التي وجدها مفروضة عليه، وغامر ولم يلتزم بتعاليم الآباء، وراح يُحلّق بعيدًا مُحاولًا الاقتراب من القصيدة التي تُمثّل الشمس في سطوعها وقوّتها. غير أنه لم يسقط - مثل إيكاروس في الأسطورة، إنّما لا يزال يحلّق ويحاول أن يقترب، وإذا كان جناحا إيكاروس قد احترقا، فإنّ الشاعر لن يحترق. تأتي الأسطورة هنا تأويلًا للتمرّد على الوصايا، والرغبة في التحرّر من الفروض والكتابة خارج  الشروط وبأقصى حرية ممكنة.

وبالحديث عن الأسطورة نفسها وعلاقتها بالميتا شعري، يقول الصكر: "في قراءة أُخرى للأسطورة، وجدتُني أميل إلى عدّ ما سمّيته 'فَناء الشاعر'، بما فيه من حمولة عشق ووله، نوعًا من الانتصار لذات القصيدة التي تنصرف لنفسها، ومعاينة وجودها، ومسمّاها واشتراطاتها. لأنّ الميتا شعري يُغْني مسبقًا عن أيّة رؤية أُخرى غير تحقيق ماهية القصيدة وذاتها وهويتها وكتابتها، وحتى على مستوى التلقّي"؛ فالشاعر الإيكاروسي يَفنى في قصيدته انتصارًا لها وإثباتًا لوجودها، وهذا ترميز آخر لمهمّة الشاعر ودوره في الاختلاف والتجاوز.

يدرس الصكر في الكتاب النصّ المرتدّ إلى نفسه، والذي لا يذهب إلى مرسل خارجي، فمضمون القصيدة هنا شكلُها وهويتُها. يقول: "الميتا قصيدة تتّسع في مساءلة القصيدة لنفسها، عن تكوّنها وتخلقها وتركيبها، عن حوارها مع نفسها ومع شاعرها، القصيدة الميتا هنا هي استخدام للغة الواصفة لإنجاز نصّ يعيد ملفوظ القصيدة إلى نفسها، سواء بكونها السارد، أو المسرود له، أو المتخيّل عن ماهيتها في التدوين لحظة الكتابة".

ولعلّ من الضروري الوقوف عند رأي أورده الناقد في الفرق بين الشعر والقصيدة، فالشعر عنده جنس أدبي وكتلة تُدافع عن مزاياها وهويتها النوعية، أمّا القصيدة فهي نصّ لا يتبع بالضرورة اشتراطات الشعر، موضّحًا أنّ امتياز قصيدة النثر يكمن في "انتقالها بالكتابة من 'الشعر' بحمولته المكرَّسة في التقاليد أو الأطر الفنّية والبنى الجمالية الموروثة والمتكتّلة بقوّة إلى 'القصيدة'، بما تقترحه من مفاجآت إيقاعية وانزياحات وخروج عن الثوابت، فالقصيدة ابنة نافرة متمردة تهفو للخروج لفضاء حرّ، ولا تنصاع لراع يريد تطويعها وتدجينها وفق تعاليمه وهو الشعر".

مفهوم الشعر، هنا، هو ما يكون في إطار التقليد والالتزام التراثي، أمّا القصيدة فهي ما لا تلتزم بكلّ ذلك، بل تتجاوزه، غير أنّ اختلاف التسمية بين "الشعر" و"القصيدة" قد لا يشكّل الخلاف الكبير، إلّا أنه يميّز هذا عن ذاك تبعًا لما تعارفت عليه الثقافة من تسمية وما استحدث فيها من فنون كتابة جديدة.

يستحضر الكاتب نصوصًا لشعراء عراقيّين، كأمثلة تطبيقية تخضع لمصطلح الميتا شعري واشتراطاته، فهي قصائد تتحدّث عن ولادة القصيدة وطور تكوّنها، هي بطريقة ما تعريف بالقصيدة من خلال القصيدة، فتجري مساءلتها بأساليب وأوضاع ومواقف شتّى، كما تُسائل القصيدةُ شاعرَها عن وعيه ورؤيته، فيحاول أن يصفها ضمن شكلها، وكأنّ القصيدة هي من كتبت نفسها ووصفت حالها. وهنا مثال من قصيدة للشاعر صلاح فائق، الذي يصف حالته مع القصيدة ومطاردته لها، فيستعين بكلّ الموجودات حوله لكي توصله بالنص الذي لم يكتبه بعد:

"أريد الوصول إلى قصيدة داخل القصيدة التي أكتبها الآن

سأنتظر مثلَ صيّادٍ قديم

لأستدرجها إلى أرضي

أكتشف الطريق إليها

ليس من هنا

ربما من ظلّ شجرة أو من ورائها

الجمال لون هذا الكون

ضبابه في كلّ مأوى

وفي الأعالي التي من زجاج

بدأتُ أرى من بعيد مشاهد جديدة

ريح تتغنّج هي تتقدّم نحوي

سأتخذها مرشدًا إلى دهاليز ومقاطع القصيدة".

تدعو إثارة الأسئلة المقلقة مثل: ما نكتب؟ ولمن؟ وكيف؟ إلى التأمّل في ما نكتبه والتفكير بالسبب الذي يدفعنا إليه، وتحديدًا الكتابة عند شعراء "المقاربة الإيكاروسية"، كما يسمّيهم الصكر، الذي يقول: "الكتابة هنا هي مصارحة بطريقتين، أوّلًا: الإفصاح عن عقيدة الشاعر في الكتابة وموقفه منها، وتخيُّل ما يجب أن تكون عليه الكتابة كفعل وموقف. وثانيًا: التحديق طويلًا في جدوى الكتابة وتحميل القصيدة مهمّة التساؤل واللايقين، ما يعكس قلقًا حول جدوى الكتابة ذاتها، وغالبًا التساؤل حول تداولية المكتوب ومدى نجاعته وأثره".

وربّما يثير هذان السببان القلق الدائم عند الكاتب الذي يبحث عن إجابة لهما من خلال ما يكتب، حيث تكاد تكون القصيدة هنا اعترافًا شخصيًا بما يعتقده الشاعر في الكتابة، وما يُجهد نفسه في التفكير فيه من جدوى ما يفعل ونتائجه.

اختصّ الكتاب بالشعراء العراقيّين وقصائدهم كحقل تطبيقي، كون القصيدة العراقية، على حدّ قوله، لم يفُتها التأمّل في إمكانات الميتا شعرية، وكون الشاعر الحداثي يتعامل مع القصيدة كتجسيد للرؤية الشعرية نصًّا، وسيُتبَع الكتاب، مثلما يشير حاتم الصكر، بدراسة أُخرى تشمل النتاج العربي بشكل أشمل.

شاعر من العراق








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي